صلاح رشاد .. يكتب: دروس ومواعظ من نكبة البرامكة
بكل تأكيد لم يدر في ذهن يحيي بن خالد عميد أسرة البرامكة قبل 18 سنة وهو يدافع عن الرشيد ويحاول قدر استطاعته منع أخيه موسي الهادي من خلعه، ويعرض نفسه لغضب الهادي الذي كاد أن يقتله، أن الرشيد الذي تربي في حجره سيبطش به هذه البطشة الكبري ويقتل ابنه جعفر شر قتلة ويسجنه ويسجن ابنه الآخر الفضل.
ويظل الاثنان في سجن ضيق كئيب حتي الموت، وتشردت هذه الأسرة اللامعة التي أذهلت الدنيا وشغلت الناس في زمنها وبعد زمانها.
هذا السيناريو المأساوي يعيدنا من جديد الي حكمة معاوية العظيمة” إحذر غضب السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد” .
تعرض البرامكة لغضبة لم تبق لهم أثرا بل جعلت من يذكر أياديهم البيضاء ومواقفهم الجميلة في مرمي غضب هارون الرشيد !!.
سئل سعيد بن سالم عن ذنب البرامكة ، فقال: ما كان منهم بعض ما يوجب ما فعل الرشيد، لكن طالت أيامهم، وكل طويل يُمل.
هذا المبرر وجيه جدا لأن كل طويل ملول، ولا ننسي أن قريشا استطالت أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو في العدل والشفقة علي الرعية والرحمة بهم، هذا الرجل العظيم استطال الناس أيامه لشدته وهيبته وتقشفه وتضييقه علي نفسه وأهل بيته قبل الآخرين، رغم أن مدة خلافته لم تزد علي 10 سنوات وكانت من أعظم سنوات الإسلام.
كما استطال الناس أيضا أيام الخليفة الهين اللين الرفيق الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فإذا كان عظماء الإسلام قد استطال الناس مدتهم فما بالنا بملك من ملوك الدنيا يجد أسرة كادت أن تتحكم فيه وظلت قابضة علي زمام الأمور في دولته الواسعة قرابة 17 سنة.
عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي خطيب الكوفة، قال : دخلت على أمي يوم الأضحى، وعندها عجوز في أثواب رثة، فقالت: تعرف هذه ؟ قلت: لا، قالت : هذه والدة جعفر البرمكي، فسلمت عليها، ورحبت بها، وقلت: حدثينا ببعض أمركم، قالت: لقد أتاني مثل هذا العيد، وعلى رأسي أربعمائة جارية، وأنا أزعم أن ابني عاق لي، وقد أتيتكم يقنعني جلد شاتين، أجعل أحدهما فراشا لي.. قال : فأعطيتها خمسمائة درهم، فكادت تموت فرحا.
أم جعفر وزوجة يحيي البرمكي التي كانت من صاحبات الكلمة المسموعة والنفوذ والسلطان في عز مجد زوجها وأولادها والتي كانت تتقلب في النعيم وحياة القصور وصل بها الحال أن تقنع بجلد شاتين وأن تطير فرحا ب500 درهم .. وهذا المبلغ كان قطرة في بحر ما ينفقه زوجها وأولادها علي الشعراء والأصدقاء وأصحاب الحاجات !!
قيل : إن الفضل بن يحيي قال لأبيه وهما في القيود: يا أبت بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا ؟
قال: يا بني دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها.
وقيل إن الرشيد كان لا يكاد يمر ببلد ولا إقليم فيسأل عن قرية أو مزرعة أو بستان إلا قيل : هذا لجعفر، وكان البرامكة قد حازوا من الأموال والعقارات ما لم يحصل لمن قبلهم ولا لمن بعدهم من الوزراء وكبار رجال الدولة.
روى ابن الجوزي أن جعفر، كان يدخل على الرشيد بغير إذن حتى ربما دخل عليه وهو في الفراش مع المحظيات من جواريه، وهذه وجاهة عظيمة ومنزلة عالية.
وكان الرشيد في اليوم الذي قتل في آخره جعفر، هو وإياه راكبين في الصيد، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك اليوم بالطيب بيده، ولما كان وقت المغرب وودعه الرشيد، ضمه إليه، وقال: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب لتكون على مثل حالي، فقال : والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.
فانصرف عنه جعفر ، فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره، وكان عُمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة.
وقيل : إن أخت الرشيد قالت له:
ما رأيت لك سرورا منذ قتلت جعفر، فلما قتلته ؟
قال : لو علمت أن قميصي يعلم السبب، لمزقته!
مات يحيى بن خالد البرمكي مسجونا بالرقة بعد 3 سنوات من نكبتهم وكان في السبعين من عمره.
وللحديث بقية إن شاء الله